رجال ومواقف - أحمد بن حنبل .. وقفة أنقذت وحدة الأمة ومصداقية العلم
سامح محاريق - كان المأمون بن هارون الرشيد أول خلفاء بني العباس من أم فارسية، هي مراجل البرمكية، ورغم أن هارون ضرب النفوذ البرمكي إلا أن ذلك لم يدفع بتراجع الدور الفارسي في الدولة العباسية، وبوصول المأمون إلى سدة الخلافة بعد صراع مع أخيه الأمين، وكان الصراع يتخذ بعدا قائما على التنازع العرقي بين العرب والفرس، فالأمين هو أول خليفة هاشمي الأب والأم منذ خلافة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، وبدأت الفتنة بين الأخوين مع نية الأمين خلع المأمون من ولاية العهد لتعلن الولايات الفارسية في الدولة العباسية شبه تمرد على سلطته انتهت بحسم الصراع لمصلحة المأمون الابن الأكبر للرشيد والأقرب إلى شخصية والده، إلا أن سنوات الصراع الدموي خلفت في شخصيته العديد من التناقضات أبرزها رغبة ملحة في كتابة تاريخ جديد للدولة العباسية، انقلاب يعيد ترتيب العائلة العباسية ويثبت توجها وطابعا جديدا لها، وكانت بدايته سياسته غير واضحة أو مموهة بالنسبة للمقربين منه، فهو يولي الإمام العلي الرضا من سلالة الإمام الحسين بن علي بما يثير اضطراب العائلة ويهدد أركانها قبل أن يعود ويحبس الإمام الرضا الذي يغيب عن المشهد في ظروف غامضة، ومن ناحية أخرى يتبنى رأيا متطرفا في مسألة حساسة تناقض ثوابت الإجماع في الإسلام متخذا من رأي المتكلمين في قضية خلق القرآن شبه مذهب لدولته، خاصة أن ذلك ترافق مع إجراءات أطاحت بجميع القضاة الذين لم يتبعوا رأيه في هذه المسألة.
تكمن خطورة المأمون ليس في قوة شخصيته أو ذكائه، فهو ليس ندا لوالده أو لأبي جعفر المنصور، وإنما في صعوبة التنبؤ بما يضمره، فهو مسكون بالتفكير الدائم الذي يجعله يتخذ مواقف متناقضة يتبعها بردود فعل لا يمكن أن يتكهن أحد بمداها، ولكن كل هذه الاعتبارات لم تؤثر في قرار أبرز معارضي القول بمسألة خلق القرآن الإمام أحمد بن حنبل المحدث والفقيه الأبرز في عصره، فوقفته أتت لتختزل الاضطراب الذي اعترى العلاقة بين السلطة والفقيه في العصر العباسي، بحيث لم تعد للعالم الديني حصانته ولم يعد الخليفة يتورع عن مطاردته ومحاكمته وحبسه، فالعالم الديني لم يعد من الأساس طرفا في الصراعات السلطوية كما كانت الحالة في العصر الأموي، وإنما عضو في صورة قريبة من المؤسسية من المجالس والحلقات، ولذلك لم يجد الخلفاء السابقون مشكلة في التعاطي مع العلماء طالما بقوا في عالمهم الخاص بعيدين عن التنازع وإثارة العامة، ولكن الحالة مع المأمون اختلفت فهو يسعى لاقتحام مجال فكري ويدخل في أحد الثوابت الدينية ليحولها إلى مسألة جدلية، ويدرك الإمام أحمد في معرض رفضه الشديد لمقولات المأمون أنها مدخل للعديد من الأفكار، وأن التهاون في هذه المسألة رغم صعوبة مواجهة السلطان ستؤدي إلى التمادي في طرح أفكار كثيرة تصيب بنية التصور الإسلامي للكون وفكرة الربوبية.
نتيجة المعارضة الشديد التي أبداها الإمام أحمد أصبحت حياته مهددة من وقت لآخر وإن اكتفى المأمون ومن تبعه من خلفاء حتى عصر المتوكل بحبسه تخوفا من إثارة تلاميذه ووضع الأفكار المتطرفة في الفرق الكلامية أمام مواجهة صعبة أمام المدارس الفقهية الأخرى يمكن أن تضرب عاجلا أو آجلا بكينونة الخلافة العباسية، خاصة وأن الإمام أحمد يمثل مدرسة متحفظة في التعامل مع المسائل الفقهية لقيت قبولا واسعا في أوساط أهالي العراق والشام بما فيها من نهج تأصيلي يتلاءم مع الطبيعة العربية ويستفز الجميع إلى الدخول في مواجهة بين العقلية العربية والفارسية، ولعل هذه الاعتبارات لم تكن أيضا في حسابات الإمام أحمد وهو يواجه محنته، فالمسألة لديه كانت الحفاظ على قدسية القرآن وموقعه في حياة المسلمين كمرجعية أولى، وفي مرحلة صعبة تلت المأمون مع وجود المعتصم لم يكن يقف في مواجهة القول بخلق القرآن بصورة علنية ومباشرة سوى الإمام أحمد وأتباعه.
إن مسألة المأمون وابن حنبل لم تكن سوى بداية ارهاصات العقل العربي الحديث حيث تحول الاستبداد إلى لغة وعملة متداولة، فإصرار المأمون على إجبار العلماء على إقرار رأيه كان هو المشكلة، إنه لم يكن معنيا بكفالة الحرية لأي رأي وإنما بتمرير رأيه وشرعنته وإلغاء الآراء الأخرى وضرب القائلين بها، والمستغرب أن أكثر خلفاء بني العباس ثقافة وانفتاحا على الحضارات الأخرى كان أكثرهم استبدادا في الناحية الفكرية، ولكن دور العالم استطاع أن يواجه في زمن الإمام ابن حنبل الذي رفض الحلول الوسط أو التسويات أو الاختباء وراء الكلمات وتصريفاتها وإنما ذهب إلى المواجهة وهو في الطرف الأقوى، لأن التنازل أو التراجع لم يكن في حساباته، إن السنوات التي قضاها الإمام أحمد في حبسه كانت أطول بيان في التاريخ العربي من أجل الحقيقة، والجدار الذي وقف أمام تغول السلطة على العلم، وجانب كبير من ذلك الصمود أتى من شخصية الإمام ومحبة تلاميذه واحترام الناس لعلمه ومنجزه في مجالي الفقه والحديث، فبعد خروجه من المحنة يعود لسنوات حيث يمثل منارة بغداد العلمية، حتى خرج عشرات الآلاف في شوارعها يشيعونه لمثواه الأخير، هذه الشعبية مثلت الحصانة التي لم يتمكن المأمون أبدا من إدراكها أو تخمينها، فكان الشارع ينحاز للعالم في مواجهة السلطان دون أن يمكن أحد أن يعرف مدى ذلك الإنحياز ومصداقيته.