رجال ومواقف .. سلمان الفارسي .. بعد عقلي وعمق حضاري
العرب في الجاهلية أمة دون تراث عقلي، على الفطرة، تميل إلى التجسيد والتبسيط وتقف أمام التجريد والتعقيد فلا تستطيع أن تتقدم خطوة، مشكلة أساسية واجهت الإسلام في بدايته، فالعرب يقف العالم لديهم عند حدود الحواس، إذا كان ثمة شيء موجودا فيجب أن يكون ملموسا ومرئيا، لذلك كان جدلهم بسيطا قائما على المطالبة ببراهين تثبت وجود الله من قبل النبي، أدلة مجسدة وحسية، لم يفكروا في فكرة الخلق، وجودهم لم يشكل أزمة لديهم على الإطلاق، إنهم موجودون ويتعاملون على هذا الأساس دون حاجة للبحث عن الأسباب أو التقدم ولو خطوة صغيرة إلى ما وراء عالمهم ومحيطهم.
أحس العرب بالضآلة أمام اليهود الذين قطنوا أماكن متفرقة في الجزيرة، كانوا يحملون تصورا عقائديا ولديهم نصوص دينية وأفكار وتصورات لم يدركها عرب الجزيرة، ولكنها وقفت تبث في أنفسهم الاحترام أو الخوف، كانت أوجه الحياة الحضارية تتركز في يد اليهود، ويسيطرون على جوانب مختلفة من الحياة تفوق وزنهم الحقيقي وإمكانياتهم الفعلية، كان اليهود وهم ليسوا على درجة كبيرة من التقدم الحضاري قياسا بالعرب يحظون بمكانة ما جعلتهم يحتكرون الأنشطة العقلية في الجزيرة، بينما تقف الحياة العربية في بنيتها العليا عند قرض الشعر ورواية الأخبار.
في هذه الظروف ظهرت شخصية روزبة الذي سيصبح سلمان الفارسي القادمة من أعماق الإمبراطورية الفارسية، وراءه قرون من الحضارة ورحلة طويلة مع العقل ومنتجاته التي تجلت في كل أوجه الحياة، لم يكن مواطنا عاديا أو رعية مستكينة في فارس، ولكنه مثقف ومطلع وملم بعلوم كثيرة ويعرف أن العالم لا ينتهي عند حدود كسرى، لم تقنعه مجوسيته، فهي صياغة للعديد من السلطات والظروف التي أملتها الحياة على الفرس، حكمته الشخصية جعلته يبحث عن ذاته وعن عقيدة تستطيع أن تلبي ذلك الطموح باعتناق الحقيقة.
رحلته الأولى كانت إلى الشام، المسيحية، ديانة الإمبراطورية البيزنطية، العدو الأول للفرس، لم تكن تلك الإنتماءات تعنيه كثيرا، فهو يريد أن ينتمي للسماء، لم يقتنع ببحثه بين القساوسة، فالمسألة تتعلق بالقناعة العقلية، وقدومه من منابع الحكمة الشرقية جعله بعيدا عن التأثر بالمقولات والخطابات، لم يقابل الشخصية التي يمكن أن تثير فيه اللحظة العقلية وتضعه على طريق الاستنارة، وصلت إلى مسامعه أحاديث مقتضبة وغائمة عن نبي في الجزيرة، فمضى ليدفع حريته في الطريق ويصبح واحدا من العبيد في المدينة عند رجل من بني قريضة.
بوصول النبي إلى قباء بدأت الصورة تتضح لدى سلمان، أخذ يصل النبي ويحادثه، وأتته القناعة بالدين الذي يحمله، بتلك البنية العقائدية التي تفتح طريق السماء وعمران الأرض، بقي يرزح تحت ثقل عبوديته وفاته أن يكون من المقدمين بين المسلمين، ولكن النبي الكريم كان يعرف أن لسلمان دور وفي وقته ستكون الفرصة مواتية، فأسهم النبي قبل الخندق في عتق سلمان وقربه له، لم يكن سلمان آتيا في بلاد أخرى وحسب وإنما خارج لتوه من أدنى درجات المجتمع، وبين السادة في قومهم كان إيمانه القوي الثابت يعطيه المكانة المتقدمة.
في الخندق كانت مشورته حاسمة في تحصين المدينة أمام أكبر جيش يندفع لها في معركة حياة أو موت بالنسبة لقريش وحلفائها، وبالفعل اندحرت جيوش الجاهلية التي لم تعرف مثلها أيام العرب من قبل، بقي سلمان بين المهاجرين والأنصار كواحد منهم، فالإسلام أعطاه هويته الجديدة، تلك التي جعلته شخصا آخر وجعلته يلتمس الطريق إلى ذاته ويرى أمامه نار الحقيقة التي تعالت على التجسيد الساذج في بلاده، فلم يعبد النار، وإنما توجه إلى الشرارة الأولى في رحلة الكون أن كن فيكون.
كان الإسلام يقدم لسلمان الصلة مع الغيب دون مبالغة أو استغلال كما جرت العادة في فارس، حيث الآلهة بيد الأكاسرة ورغائبهم، وفي الوقت ذاته يقدم حاجات الإنسان ويحترمها، فكانت نصيحته لأبي الدرداء بأن لأهله عليه حقا في أن يخفف من صيامه وصلاته مؤيدة بمقولة النبي أن سلمان أشبع علما، إن العبادة الحقة هي في ذلك الإنسان الذي هو خليفة الله على الأرض، وبذلك أمضى سلمان حياته، زاهدا في المال وفي الإمارة، في أطراف العراق قريبا من الهواء الذي اعتاده طفلا اختار أن يبتعد عن أشياء تغر الآخرين وتأخذهم فيها العزة بالإثم، لم يكن ذلك ما يعنيه فمن بيت كريم في فارس ولوالد على بداية الالتحاق بالطبقات العليا المقربة من الحكم نشأ، ولكنه اختار أيامه الأخيرة يصنع الخوص وتتقدم به الأيام، وينتظر الساعة التي يلحق بها برفيقه الكريم، قانعا بما حازه في حياته، يعتبره إنجازه الأهم، روحا راضية تحت شمس الحقيقة.