رجال ومواقف ... سعد بن عبادة .. الشرعية الأخلاقية في مواجهة غواية القبيلة
سامح محاريق
لم تكن قريش لتندفع للإسلام للعديد من الأسباب، ليست لقناعتها أو إنكارها لدعوة النبي الكريم على أساس رؤيتهم العقائدية دور في ذلك، فمن أحد بيوتها يخرج النبي الذي لا يمثل عادتها أو تقاليدها فتتحرك بمرجعيته في قريش النعرات الكبرى بين أجنحتها المتعددة، وخاصة التي فرضت بثرائها وليس أهليتها سلطانها على القبيلة، كما أن النبي كان يهدد بفناء نظام كامل دون أن يطرح لقريش البديل الذي تحتفظ فيه بمكانتها، لذلك كانت خيارات اللجوء للقبائل العربية المتحررة من وطأة الاعتبارات القرشية تلح على الرسول لأداء مهمته في التبليغ، ولكنه لم يجد بين القبائل من يمكنه أن يحمل مسؤولية الدين الإسلامي الذي يخالف تراثها وقناعاتها، فزيارات الرسول للطائف وعدة قبائل أخرى انتهت بصورة مؤلمة احتاجت لعزيمة هائلة لتجاوزها واستكمال الدعوة، وحتى القبائل التي استقبلته ببعض التفهم مثل بني عامر وضعت شروطا اتخذت صيغة الصفقة، فهي طلبت السلطان على العرب بعد النبي مقابل نصرتها له، ولكن الرسول ترفع عن النزول لذلك الدرك فالأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، ولم تكن أي من تلك القبائل مرشحة لاحتضان الدعوة.
في المدينة كانت الأمور مختلفة تماما، فالتركيبة الاجتماعية تختلف عن جميع أرجاء الحجاز، فمعظم أهالي المدينة ينتمون إلى قبيلتي الأوس والخزرج اليمانيتين، نزحتا إلى يثرب بعد انهيار سد مأرب في اليمن، وفي تلك المرحلة من التاريخ كانت اليمن متقدمة بصورة كبيرة على مناطق الحجاز ونجد، فهي حضارة قائمة ومستقلة، ومفتوحة أيضا على الحضارات الأخرى، كما أن أهل اليمن تعايشوا مع حراك ديني أكثر نضجا من السائد في الجزيرة، وبالتالي فالأوس والخزرج يعتبرون من القبائل غير الممعنة في البداوة، أقرب إلى حياة التحضر، كما أن المدينة شهدت وجودا كثيفا لقبائل يهودية منفتحة ومختلفة عن القبائل العربية، يحملون خبرة تاريخية وثقافة واسعة، وإن تكن أعماقهم مسكونة بالبداوة والتعطش للعنف على شاكلة الكثير من القبائل العربية التي هذبها الإسلام.
كان الخطاب الذي توجه به الرسول للقبائل العربية أخلاقيا في الدرجة الأولى، ولم تكن الأخلاق العربية السائدة سوى تعبيرا عن الضرورة، يمكن أن تتغير وتتبدل بحسب الظروف، وذلك أحد أسباب التخلف الحضاري الذي رزحت تحته تلك القبائل رغم وجود القوة الكامنة لديها كما تبين من مواجهتها للفرس في ذي قار، ولكن غياب التأسيس الأخلاقي ضرب أي مشروع عربي قبل الإسلام، ولم تتجاوب مع ذلك النداء النبوي سوى الأوس والخزرج، وكانت الاستجابة لذلك الخطاب ناتجة عن عمقهم الحضاري المتفوق على القبائل الأخرى، كما أن تعايشهم مع اليهود والأحاديث المتناقلة دائما على النبي المرتقب، ولعلها فكرة النبوة والتوحيد ككل التي كانت ناضجة في يثرب جعلتها المكان المناسب للهجرة الإسلامية من مجتمع مكة الذي أخذ يحاصر المسلمين ويدفعهم إلى الخيارات الصعبة.
كانت البيعة هي بداية المرحلة التالية للإسلام في يثرب، وكان الإجماع الذي ربط بين الأوس والخزرج حالة نادرة في تاريخ المدينة، حيث حرص اليهود على إبقاء الطرفين في صراع مستمر، ولكن المبادئ الإسلامية لقيت الصدى الذي جعل التسابق الإيجابي يتحول إلى إجماع على الفكرة، فيتوجه للرسول ممثلين عن القبيلتين في بيعة العقبة، وتدرك قريش بعد وصول الأخبار لزعمائها أن تحالف السعدان (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة زعيمي الأوس والخزرج) مع النبي سيكون له أثر بليغ في تعزيز مكانته في مكة، ولكن ليس إلى الحد الذي يمكنه أن يشكل الخطر الكبير، ولم تكن الهجرة في مخيلة أحد منهم، فالأوس والخزرج قبائل صغيرة من حيث إمكانياتها المادية ولا يمكن أن تستقبل هجرة كبيرة، وقصارى ما يمكن أن يتحقق ليس بأفضل من ضيافة النجاشي لبعض المهاجرين للحبشة.
لم يدرك القرشيون أن زعماء الأوس والخزرج كانت لديهم اعتبارات أخرى، فبجانب القناعة بالإسلام تكون لديهم الطموح لدفعه لقيادة العرب، مواجهة الوثنية، النظام الذي يبقي العرب في حلقة التبعية والاستغلال الذي جربوه مع اليهود لسنوات طويلة، وفي تلك الأثناء ظهر دور سعد بن عبادة، فمع الهجرة بدأت المتطلبات تتزايد لإيواء الوافدين المتواصل من مكة، وكانت ديار الأنصار تستضيف شخصا أو اثنين من المهاجرين، ولكن سعد بن عبادة وظف الكثير من أمواله في خدمة الهجرة، فكان يستقبل ثمانين شخصا ليتكفل بشؤونهم في يثرب واحتياجاتهم، ولم يبد في حياته أي نزعة لاستثمار ذلك في توطيد زعامته على يثرب، فالخلاف بين الأوس والخزرج أصبح ماضيا والعودة إلى ذلك المربع الدموي لم تعد واردة، فتمكن من استقطاب الزعامة على الأنصار بأوسهم وخزرجهم لمزايا شخصية وليست اجتماعية، فحمله لواء الأنصار في الغزوات كان ناتجا عن شجاعته القتالية وقدراته القيادية، وليس تعبيرا عن مكانته القبلية، فحصوله على فرصة التقرب من النبي ومناصرته كانت بالنسبة له هي التقدير الحقيقي لدوره في نشوء الدولة الإسلامية في المدينة.
لم يمكن الإسلام سعدا بن عبادة رضي الله عنه من تجاوز الخلاف القائم مع بني عمومته من الأوس، أبناء نفس المسيرة والكفاح في التواجد بين القبائل العربية وتثبيت أقدامهم في يثرب، معقل اليهود في الجزيرة العربية، ولكنه أعطاه ذلك العتق من التمييز القائم على أساس العرق أو اللون أو النسب، التسامي فوق هذه الاعتبارات، حيث الدين ورسالته الأخلاقية هي التي تحدد مكانة الإنسان ومساره، لذلك وقف مع المهاجرين القادمين ليس من نسب آخر وإنما من قبيلة لم تكن تخفي ذلك التعالي على الآخرين من خلال استثمارها لوضعها المميز في حاضرة العرب الكبيرة، حاول البعض تشويه سيرته في المراحل الأخيرة من حياته بعد وفاة الرسول الكريم، ولكن تلك السنوات لم تقرأ بصورة جيدة وخالطتها المصالح المذهبية والنزاع والشقاق الذي أفنى عمره في مواجهته ووأد فتنته.