إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً, صلى الله عليه وعلى آله ومن اقتفى أثره واستنَّ بسنته إلى يوم الدين, ثم أما بعد :
فإن الناظر في الفترة الزمنية منذ بدء عصر تدوين السنة وجمع الأحاديث النبوية وكتابتها يعلم أنها مرت بمراحل مهمة وإليك بيان ذلك:
أنه في أول الأمر لم تدون في كتاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابتها, ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن, ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) قال كثير من أهل العلم: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن لكن لما أُمن اللبس أجاز النبي صلى الله عليه وسلم كتابة الحديث ومما يدل على ذلك:
إذنه صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (اكتب فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا حق) رواه أبو داود والحاكم.
وقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاة) أخرجه البخاري ومسلم.
وفي صحيح البخاري عن أبي صحيفة قال: قلت لعلي – يعني بن أبي طالب رضي الله – هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة, قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه أحد أكثر حديثاً مني إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب).
ولما توفي رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بادروا الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده صلى الله عيه وسلم من القرآن في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن لكن اختلفوا في ذلك:
قال ابن الصلاح: (اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه, ومنهم من أجاز ذلك وممن رُوينا عنه كراهة ذلك عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين ... وممن روينا عنه باحة ذلك أو فعله علي وابنه الحسن وأنس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن قال: ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون تسويغ ذلك وإباحته ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الآعصر الآخرة) أ.هـ [مقدمة ابن الصلاح مع التقييد ص190-191]
ولما انتشر الإسلام واتسعت البلاد وشاع الابتداع وتفرق الصحابة في الأقطار ومات كثير منهم وقل الضبط دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة وكان أول من اعتنى بذلك هو الإمام أبو بكر بن محمد بن مسلم بن عبدالله الشهير بابن شهاب الزهري على رأس المائة الأولى, فعن صالح بن كيسان قال: (اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم, فقلنا نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: نكتب عن أصحابه فإنه سنة, فقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه, قال: فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت) [رواه ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية والخطيب في تقييد العلم].
ولما خاف الخليفة عمر بن عبدالعزيز من اندراس العلم وذهابه لموت حملته بعث إلى محمد بن عمرو بن حزم يأمره بجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه) [كما في الإرشاد للخليلي 1/189].
ثم أتى بعد الزهري في أثناء المائة الثانية من جمع الحديث النبوي على الأبواب كابن جريج وهشيم بن بشير والإمام مالك ومعمر بن راشد وابن المبارك وغيرهم.
واستمر بعد ذلك الجمع والتدوين على طرائق عدة من جمع المسانيد والمصنفات والصحاح والجوامع والمستخرجات, وفي ذلك يقول السيوطي في ألفيته:
أول جامـع الحديث والأثر === ابن شهـاب آمراً له عمـر
وأول جـامـع للأبـواب === جماعة في العصر ذو اقتراب
كابن جريج وهشيم ومالك === ومعمـر وولـد المبـارك
وهكذا جاء من بعدهم فأفرد الحديث الصحيح على حده وكان للإمام أبي عبدالله البخاري قصب السبق في ذلك كما سيأتي إن شاء الله موضحاً, وهكذا كتب العلماء من المتقدمين في قواعد الحديث وفنون الاصطلاح كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.