خالد بن الوليد .. رائد العسكرية العربية ومؤسس الجيش الإسلامي
يأتي الله به، هكذا أجاب الوليد بن الوليد الرسول الكريم حين سأله عن شقيقه خالد، فالفصل الأخير في الصراع بين قريش والمدينة يقارب على الانتهاء، وما زال خالد مكابرا في علاقته مع الإسلام، ليس يغيب عن فطنته أن ساعة الحسم اقتربت، وأن الإسلام لا محالة سينتصر، كان الرسول الكريم يعرف الدوافع الكامنة في شخصية خالد، ذلك الاعتداد بالنفس، المكابرة، الإباء، يعرفه كخصم مختلف عن سادة قريش المندفعين بالعصبية والجهل، ما مثل خالد جهل الإسلام، يخاطب الوليد، ويبلغه معرفته بمكانة أخيه، تقديره للأفكار التي تعتمل في رأس خالد ووجدانه المضطرب والقلق في هذه المرحلة.
كانت الخيارات أمامه تنحصر قبل اللحظة التي أخذته إلى قرار الإسلام بالهجرة خارج الجزيرة العربية، الحبشة أو الشام، يروى أنه أسلم متأخرا، والحقيقة أنه أسلم في الوقت المناسب، فخالد الذي يمثل الصفوة القرشية وصاحب التاريخ الكبير بين فرسانها المعدودين، ليس في شجاعته في الميدان، فهذه كانت مزية يشاركه بل ويزاحمه فيها كثيرين من قريش وحلفائها، فروسيته كانت في اقتناص اللحظة المناسبة، لم تكن تغريه الغنائم فهو يبحث عن مجده الشخصي، لذلك شعر في العديد من الأوقات أن دخوله الإسلام متأخرا وبعد أحد سيجعله بعيدا عن تحقيق ذاته، عن المقدمة، ولكن الرسول الكريم أعطاه مع الوليد وعده بأن يحظى خالد بالمكانة التي يستحقها، فالإسلام يجب ما قبله.
لم يكن ذلك الوعد هو العامل الأساسي الذي دفع خالد للالتحاق بالإسلام، هو مجرد عامل هامشي، ولكنه كان حقيقيا، فبعد أن ألقى خالد الشهادة في حضرة الرسول الكريم استقبله الرسول وكأنه على إطلاع بالحوار العقلي الذي خاضه خالد طيلة أشهر مضت، وطمأنه بقوله «قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير»، ولكن عقل خالد كان على سجيته وفطرته، ذكيا، حادا، يمسك باللحظة المناسبة، لا يقر ولا يهدأ، الطمأنينة لم تكن غايته، في المعركة كان يجد نفسه، يحقق اكتمال روح المقاتل في داخله، تلك التي تثبت أنه لم يكن ذلك الفتى المدلل والمنطوي في ظل أحد سادة قريش الكبار والده الوليد بن المغيرة.
في معركة مؤتة لم يكن في وارد الأمر أن يتولى خالد القيادة أو يكون قريبا منها، فأوصي بقيادة المسلمين في معركتهم الأولى خارج الجزيرة العربية لزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، رضوان الله عليهم استشهدوا في أرض المعركة ببسالة وكبرياء، لم تكن ثم وصية لأحد من بعدهم، ولم يكن من الممكن أن يتم الرجوع إلى المدينة، لم تكن المسألة بحاجة إلى كثير من التفكير، فكيف يمكن أن يتم تجاوز خالد، الوضع الخطير الذي خيم على أرض المعركة لم يكن يحتمل التأجيل أو الشقاق، المشهد كان يحمل في داخله التراجيديا الكامنة في علاقة الرجل بالتاريخ، فبين المسلمين من يكبرونه سنا، وبينهم من شهدوا بدرا، ولكن الساعة كانت له وللإسلام بعامة.
أدرك خالد أن المعركة في مؤتة مختلفة عن كل المشاهد التي قاتل فيها من قبل، فليست طبيعة الاشتباكات الدائرة مشابهة لما خبره في القتال بين القبائل العربية، فالسرعة ليست عاملا أساسيا، ولا الشجاعة كذلك، إنه التنظيم بطريقة لم يعرفها العرب، أدرك خالد أن المعركة تمضي لغير صالح المسلمين، وأن الخسائر ستكون كبيرة للغاية، وأن الهزيمة ستهوي بمعنويات المسلمين، لذلك عمل على استدراك الموقف، يريد التراجع دون خسائر، يعرف أن الروم ليس ضمن خياراتهم أن يمضوا في المواجهة إلى النهاية، ولكنهم لن يتركوا فرقة صغيرة تفلت، فالقضاء على الجيش الصغير للمسلمين يمكنه أن يبث الرعب في الجزيرة كلها، أراد خالد أن يوهم الروم بأنه على رأس جيش كبير تأتيه الامدادات ليجعل كل خطواتهم محسوبة ويبطأ من قدرتهم على اتخاذ القرارات، في هذه اللحظة تمكن من الإفلات، العمليات التي جرت في الليل بتبادل المواقع بين أجنحة الجيش أدت الغرض كاملا، وجعلت الروم يعدلون عن قرار تتبع المسلمين خوفا من التورط في معارك كبيرة في الصحراء.