مختارات من اشعار ابن زيدون
*** أضحى التنائي ***
أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا،
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا
حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ،
حُزْناً، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
غِيظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهوَى
فدعَوْا بِأنْ نَغَصَّ، فَقالَ الدهر آمينَا
فَانحَلّ ما كانَ مَعقُوداً بأَنْفُسِنَا؛
وَانْبَتّ ما كانَ مَوْصُولاً بأيْدِينَا
وَقَدْ نَكُونُ، وَمَا يُخشَى تَفَرّقُنا،
فاليومَ نحنُ، ومَا يُرْجى تَلاقينَا
يا ليتَ شعرِي، ولم نُعتِبْ أعاديَكم،
هَلْ نَالَ حَظّاً منَ العُتبَى أعادينَا
لم نعتقدْ بعدكمْ إلاّ الوفاء لكُمْ
رَأياً، ولَمْ نَتَقلّدْ غَيرَهُ دِينَا
ما حقّنا أن تُقِرّوا عينَ ذي حَسَدٍ بِنا،
ولا أن تَسُرّوا كاشِحاً فِينَا
كُنّا نرَى اليَأسَ تُسْلِينا عَوَارِضُه،
وَقَدْ يَئِسْنَا فَمَا لليأسِ يُغْرِينَا
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا،
يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ
سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ من تألُّفِنا؛
وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الوَصْلِ دانية
ً قِطَافُها، فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السّرُورِ فَما
كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَا
لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يغيّرُنا؛
أنْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا!
وَاللهِ مَا طَلَبَتْ أهْواؤنَا بَدَلاً مِنْكُمْ،
وَلا انصرَفتْ عنكمْ أمانينَا
يا سارِيَ البَرْقِ غادِ القصرَ وَاسقِ
به مَن كانَ صِرْف الهَوى وَالوُدَّ يَسقينَا
وَاسألْ هُنالِكَ: هَلْ عَنّى تَذكُّرُنا
إلفاً، تذكُّرُهُ أمسَى يعنّينَا؟
وَيَا نسيمَ الصَّبَا بلّغْ تحيّتَنَا
مَنْ لَوْ على البُعْدِ حَيّا كان يحيِينا
فهلْ أرى الدّهرَ يقضينا مساعفَة ً
مِنْهُ، وإنْ لم يكُنْ غبّاً تقاضِينَا
رَبيبُ مُلكٍ، كَأنّ اللَّهَ أنْشَأهُ مِسكاً،
وَقَدّرَ إنشاءَ الوَرَى طِينَا
كأنّنَا لم نبِتْ، والوصلُ ثالثُنَا،
وَالسّعدُ قَدْ غَضَّ من أجفانِ وَاشينَا
إنْ كان قد عزّ في الدّنيا اللّقاءُ بكمْ
في مَوْقِفِ الحَشرِ نَلقاكُمْ وَتَلْقُونَا
سِرّانِ في خاطِرِ الظّلماءِ يَكتُمُنا،
حتى يكادَ لسانُ الصّبحِ يفشينَا
لا غَرْوَ في أنْ ذكرْنا الحزْنَ حينَ
نهتْ عنهُ النُّهَى ، وَتركْنا الصّبْرَ ناسِينَا
إنّا قرَأنا الأسَى ، يوْمَ النّوى ،
سُورَاً مَكتوبَة ً، وَأخَذْنَا الصّبرَ تلقينا
أمّا هواكِ، فلمْ نعدِلْ بمَنْهَلِهِ
شُرْباً وَإنْ كانَ يُرْوِينَا فيُظمِينَا
لمْ نَجْفُ أفقَ جمالٍ أنتِ كوكبُهُ
سالِينَ عنهُ، وَلم نهجُرْهُ قالِينَا
وَلا اخْتِياراً تَجَنّبْناهُ عَنْ كَثَبٍ،
لكنْ عَدَتْنَا، على كُرْهٍ، عَوَادِينَا
دومي على العهدِ، ما دُمنا، مُحافِظة ً،
فالحرُّ مَنْ دانَ إنْصافاً كما دينَا
فَما استعضْنا خَليلاً منكِ يحبسُنا
وَلا استفدْنا حبِيباً عنكِ يثنينَا
وَلَوْ صبَا نحوَنَا، من عُلوِ مطلعه،
بدرُ الدُّجى لم يكنْ حاشاكِ يصبِينَا
أبْكي وَفاءً، وَإنْ لم تَبْذُلي صِلَة ً،
فَالطّيفُ يُقْنِعُنَا، وَالذّكرُ يَكفِينَا
وَفي الجَوَابِ مَتَاعٌ، إنْ شَفَعتِ بهِ
بيضَ الأيادي، التي ما زِلتِ تُولينَا
إليكِ منّا سَلامُ اللَّهِ ما بَقِيَتْ
صَبَابَة ٌ بِكِ نُخْفِيهَا، فَتَخْفِينَا
ابن زيدون
نستولوجيا الأندلس التي لا تستعاد، هي تاريخ ابن زيدون وولادة، كيف نبتت هذه الأزهار البرية التي ورثت الخزامى والنخيل لتزرعها في تربة قرطبة وإشبيلية، رائحة البرتقال والكرز التي هاجرت مئات من سنين الضوء في ثقافة متفردة لا يمكن أن تستعاد، ولا يمكن كما لا ينبغي أن يتخلص من توقها المرضي أحد، هي الثقافة التي عبرت فوق المضائق والخلجان الضحلة، وسافرت وراء البحار العميقة، زاوجت رؤوس جبال الثلج بهامات الكثبان الرملية، بقيت في المقامات تتناسل من الريح والصبا وتذروها أغاني التروبادور وشعراء الحب الجوالين، توزعت بين آهة عود ورنة جيتار، وتاهت في دقات الأقدام الغجرية الواثقة من اكتمال الفتنة في رقصات الفلامنجو.
في مطلع الألفية الثانية ولد ابن زيدون الذي ينتمي إلى أصول عربية قحة، من مخزوم وقيس كان منبته على أرض قرطبة في الحي الذي اتخذ من الرصافة اسما، وكأن بغداد التي دفعت بعبد الرحمن الداخل ليعبر المضيق إلى الأرض الجديدة ويضع الأندلس على خريطة الحلم العالمي، استردت منه ذلك الاسم في مصالحة تاريخية بين عالمين، في أسرة فقهية نشأ ابن زيدون في كفالة جده ليدفع به إلى الأرستقراطية الأندلسية شابا واثقا من نفسه ومما حازه من علوم ومعارف، هذا الموقع مكنه من لعب دور مؤثر في تاريخ قرطبة، فتصدى للخلافة الأموية التي أعادت تكرار أخطائها القديمة بإصرار وتؤدة، أسهم بموقعه بين جمهور المدينة وبثقله العائلي والشخصي في تأسيس شكل جديد للحكم، أقرب للناس والعامة، ولكن نزعته الحرة أخرجته من منصبه الوزاري الذي حازه في دولة ابن جهور، ظهرت ولادة في حياته فبدأت الأندلس تتعلم من جديد لغة أخرى ولكنة جديدة، كان الشعر هو التواصل الأثيري الذي تتلاشى فيه المسافات والأزمنة، القصيدة التي بقيت تتردد مئات السنين على امتداد جنوب المتوسط وشرقه، داخلت الموشحات العربية والمقامات وكأنها الوشيجة المركزية التي تلتف حولها جدائل هذا الفن.
بقي ابن زيدون قريبا من السلطة في علاقة مؤرقة وصعبة وكان الشعر حديقته الخلفية التي توسعت فأصبحت بستانا أندلسيا ونزاعا جميلا عربيا قوطيا على تلك الذائقة الاستثنائية التي عبرت الأزمنة، ووضعت يديها في قطن الغيم المسافر بين شاطئين وحضارتين، رحل ابن زيدون وذهبت الأندلس في موسم للدموية والتفتيش في الذمم والضمائر، طويت القصيدة صفحتها لبعض الوقت ولكنها عاودت تنبعث كأسطورة من جديد، كأرض لم تعرف بعد وسماء أبعد من أن تتناولها الأصابع أو الكلمات.